mardi 6 novembre 2012


                                           POUR UN DROIT PENAL MUSULMAN
                                          

                     HE
نـظـام جـنـائـي مـسـلـم                                  
   الهادي كرو

                            الضمانات الفرديّة في الشريعة الإسلاميّة
لقد كثر اهتمام رجال القانون ـ في هذا العصر ـ بالقسم الجنائي في الشريعة الإسلاميّة، وحاول أغلبهم مقارنة أحكامه بأحكام القوانين الوضعيّة الحديثة.
ولم يقع الاكتفاء بالقواعد الخاصّة بل شملت المقارنة المبادئ العامّة وتتلخّص الطريقة المتّبعة في الدراسة أنّ الباحث يعرض المبدأ الثابت في القوانين الوضعيّة أوّلا ثمّ يرجع بعد ذلك إلى الفقه فيستنبط منه أحكاما تفيد في النهاية بعد التأويل أنّ هذا المبدأ قد تعرّض له التشريع الإسلامي وتضمّنته نصوصه.
ولذا أقرّ بعض الباحثين ـ نتيجة لما ذكر ـ شمول التشريع الإسلامي للنظريّات الحديثة والقواعد المتعلّقة بالحريّات العامّة وبضمانات الحقوق الفرديّة.
وقد تجلّت هذه الظاهرة بالنسبة لدراسة القانون الجنائي في المبدإ القائل أنّ الجرائم تحكمها في الإسلام المبادئ التي أقرّتها النظريّات الحديثة والقوانين الجزائيّة المعاصرة مع التأكيد بأنّ للشارع الإسلامي فضل السبق في وضع القواعد المتعمّدة لهذه المبادئ، ولعلّ غاية جهدهم هي بيان أنّ التشريع الإسلامي متّفق مع القوانين الوضعيّة الجديدة وذلك لأنّ ملائمته معها تضمن له عندهم التفوّق وتجعله صالحا لكلّ زمان ومكان.
لا يمكن أن نعتبر أنّ قيمة التشريع الإسلامي تكبر وتصغر بقدر ما تكون أحكامه متّفقة أو مختلفة مع النظريّات الوضعيّة المعاصرة لأنّ قيمته الحقيقيّة تأتي من طبيعة أحكامه ومن مدى نجاعتها عند التطبيق وعلى هذا الأساس يستحسن أن يكون قصد الباحثين هو محاولة بيان أنّ التشريع الإسلامي له أصول خاصّة به وأنّ الأسس التي بني عليها أحكامه كفيلة بأن تساير ما يساير الأحداث الجديدة ويتّفق مع مقتضيات كلّ العصور.
لذا وجب التعرّض في هذا المعني إلى أصول القسم الجنائي من التشريع الإسلامي وموقف الفقهاء من فلسفته للوصول إلى معرفة حقيقة الضمانات الفرديّة التي تحتويها تعاليمه.
ـ لا جريمة إلاّ بقانون ولا عقوبة إلاّ بقانون سابق الوضع ـ 
يفيد هذا المبدأ في التطبيق أنّ كلّ عقوبة ينزلها الحاكم يشخّص إنّما هي نتيجة جزاء لمخالفة القوانين سابقة الوضع حرّم تصرّفا قام به الشخص.
فلا بدّ أن تصرّح النصوص بتجريم الشخص وأنّ التطبيق الضيّق لهذا المبدأ يقتضي أن يتعرّض القانون لقائمة الأوامر والنواهي التي يعتبرها جرائم وذلك على سبيل الحصر وأن يضبط اللاّزمة لكلّ جريمة دون أن يكون لها حدّا على حدّ أدني.
إلاّ أنّه اتّضح أنّ في هذا النظام مأوي عديدة منها أن من الصعب أن تضبط كلّ الجرائم وأن الناس يختلفون في طرق ارتكاب الجرائم لذلك حوّر بنظام أقران العقوبة غير محدّدة مع بقاء المبدأ بأنّ الجريمة يحتويها نصّ سابق وأنّ العقوبة مقرّر من نصّ سابق أيضا.
ما هو موقف التشريع الإسلامي من هذا الموقف:
نجد ما يفيد صراحة
1 ـ إنّ الإسلام لا يعاقب إلاّ بعد التنبيه والإنذار، فقد قال تعالى:
 " وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا..."
" وأنّ من أمّة إلاّ خلا فيها نذير..."
" وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّتها رسولا يتلو عليهم آياتنا..."
" رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل، وكان الله عزيزا حكيما.."
وبالإضافة إلى أن الإسلام لا يعاقب إلاّ بعد التنبيه والإنذار فإنّ الإسلام لا يعاقب على ما حرّمه الإسلام إلاّ بداية من دخول الإسلام، فقد قال الله تعالى:
" قل للذين كفروا أن ينتبهوا يغفر لهم ما قد سلف (5) "
ولقد جاء في السنّة أن عمر بن العاص طلب بعد إسلامه من الرسول أن يغفر الله له ما تقدّم من ذنبه فقال عليه الصلات والسلام: " يا عمر أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما قبله." (1)
وهكذا فقد تعرّضت النصوص لهذه الجرائم والعقوبات على النحو التالي:
1 ـ السّرقة: قال الله تعالى:
" والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله. (2) "
2 ـ قطع الطريق: ثبت بقول الله تعالى:
" وإنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدّروا عليهم، فاعلموا أنّ الله غفور رحيم.(3)"
3 ـ البغي: قال الله تعالى:
" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي يبغى حتى تفيئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحبّ المقسطين.(4)"
4 ـ الردّة: يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
 "من بدّل دينه فاقتلوه."
" لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك للجماعة. (1) "
5 ـ الزنا: قال الله تعالى:
" الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. (2) "
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة، والزّانية لا ينكحها إلاّ زاني أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين.
وضحت الوقاية من الزنا في قوله تعالى:
" واللاّتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم إن شهدوا فأمسكوهنّ في البيوت حتى يتوفّاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا.(3) "
حدّد الله طريقة إثبات الحدّ في قوله تعالى:
" اللاّتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم. (4) "
وقال الله تعالى:
" لولا جاءوا بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون. (5) "
" واللذان يأتيانهما منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنها، إنا لله كان توّابا رحيما. (1) "
6 ـ القذف: قال الله تعالى:
" والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون.(2)"
لئن تعرّضت النصوص صراحة إلى بعض الجرائم والعقوبات فمن الثابت أنّه لا يوجد بالقرآن والسنّة بيان لكلّ الجرائم وتحديد لكلّ العقوبات وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق في أي تشريع مهما كان نوعه.
ورغم هذا السكوت فإنّ الفقه لم يترك أمر تحديد كلّ الجرائم وتقدير كلّ الجرائم وتقدير كلّ العقوبات لأوّل الأمر بل عمد إلى تقسيمها إلى قسمين، قسم ما فيه نصّ وقسم ما ليس فيه نصّ تطبيقا لقواعد التأويل الجديدة التي وضعها على الأصول.
ما هو تأثير هذا التقسيم على الضمانات الفرديّة وقد منع الفقه أوّل الأمر من حريّة إعادة تقدير العقوبات التي أقرّتها النصوص للجرائم المنصوص عليها وحدّدتها وهي جرائم الحدود (3) وجرائم القصاص.
إلاّ أنّ الفقه أقرّ لأولي الأمر حريّة مقيّدة في اختيار عقوبات لم يحدّدها النصّ وهي اختيار عقوبات لم يحدّدها النصّ وهي العقوبات الزاجرة لجرائم التعزير.
هذا من جهة، وأنّ التشريع يقرّ بأنّ النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى (1)       ـ يفرض من جهة أخرى ـ بأنّ أفعالا جديدة قد تحدث وتشكّل اعتداءات لا بدّ من منعها ووضع زواج لها في وقت تناهي فيه النّص.
اعترف الفقه بهذه الظاهرة وذلك حين أقرّ في نظامه الجنائي قسم جرائم التعزير التي يتولّى وليّ الأمر تقدير عقوبتها.
وممّا لا شكّ فيه أنّ ممارسة جرائم التعزير من سلطة عادلة يضمن للناس حقوقهم.
ولسائل أن يقول:
هل يحقّق هذا الموقف تطوّر أحكام التشريع الجنائي الإسلامي تطوّرا يجعلها تتّفق مع كلّ عصر وتتلاءم مع كلّ بيئة وتضمن خاصّة الحقوق الفرديّة.
يبدوا هذا الموقف من أوّل وهلة غريبا خاصّة إذا اعتبرنا أنّه يتعلّق بتشريع يؤمّن بضرورة تطور الأحكام ويقرّ بأن النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى.
 ولسائل أن يقول:
هل يحقّق هذا الموقف تطوّر أحكام التشريع الجنائي الإسلامي تطوّرا يجعلها تتّفق مع كلّ عصر وتتلاءم مع كلّ بيئة وتضمن خاصّة الحقوق الفرديّة؟
يبدوا هذا الموقف من أوّل وهلة غريبا خاصّة إذ اعتبرنا أنّه يتعلّق بتشريع يؤمن بضرورة تطوّر الأحكام ويقرّ بأنّ النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى (3)
ويبرّر هذا الموقف طرح مثل هذا السؤال، لئن تأكّدنا من أنّ جرائم التعزير تضمن الحريّات الفرديّة إذ كان الذي اضطلع بتقدير عقوباتها عادلا فهل تحقّق جرائم الحدود وجرائم القصاص هي الأخرى هذه الضمانات الفرديّة؟
إنّ الأفعال التي نصّت عليها الشريعة الإسلاميّة واعتبرتها جرائم هي أكبر الرّذائل.
حقّ الله
الآثار المترتّبة من مبدإ القائل بأنّ الجرائم والعقوبات مقدّرة في جرائم الحدود:
1)   لا يشترط أن تسبق دعوى لا ثبات الجريمة
2)   جميع الحدود تثبت بالإقرار والبيّنة ما عدا حدّ القذف ( اختلف الفقهاء في توجيه اليمين فيه)
3)   اختلف الفقهاء بخصوص أثر التقادم في جرائم الحدود.
أ ـ بالنسبة لعمر وهو حريص على المحافظة على حرّيات الناس يقول:" أيّما شهود شهدوا على حدّ لم يشهدوا عند حضرته ـ فإنّما شهدوا على ضغن ـ فلا شهادة لهم"
إذن لا تسمع شهادة المتراخين فيها.
4)   المجتمع هو المتضرّر في جريمتي الزنا والشراب ولذا فلا عفو فيها، وقد اختلف الفقهاء في العفو في جريمتي القذف والسرقة.
الضمانات والقيود في الجرائم:
1)   الزنا: أربعة شهود وإن لم يكتمل عدد الشهود حدّ القذف
ـ هل شرط الأربعة شهود شدّة؟
ـ هل توجد إجازة في ارتكاب جريمة الزنا بصفة مستترة خفيّة، وهل أنّ العقاب لا يسلط إلاّ عندما يتعمّد المجرم ارتكاب الزنا بصفة علنيّة يشاهده فيها أربعة شهداء.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أيّها النّاس من ارتكب شيئا من هذه القذورات فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفته أقمنا عليه الحدّ. (1)
قد أعاب شرّاح القانون على مبدأ الشرعيّة عدم مراعاة ظروف المجرم الشخصيّة عند تحديد العقوبة من القانون.
كما قالوا بأنّ هذا المبدأ لا يضمن حماية المجتمع حماية مطلقة وذلك حين يتمّ الاعتداء عليه بأفعال جديدة مضرّة به لا يستطيع القاضي تسليط العقاب من أجلها لأنّ القانون لم يجرمها.
أمّا ما يخصّ العيب الأوّل المتمثّل في عدم مراعاة ظروف المجرم الشخصيّة فإنّ التشريع الإسلامي، وإنّ قدر العقوبة المستوجبة عند ارتكاب الجريمة فإنّ مطبقيها راعوا في إثباتها والإقرار بأنّ الجريمة ارتكبت وحتى في تطبيق العقوبة ظروف المجرم الشخصيّة والملابسات التي حقّت به وقت ارتكاب الجريمة.

 




1 ـ تطوّر التشريع الإسلامي
إن لم يكن للعرب قبل الإسلام نظام جزائيّ موحّد فقد كان لهم عرف في هذا الميدان وعادات تختلف من قبيلة إلى أخرى ومن دين إلى آخر.
كما أنّ الإسلام لم يلغ كلّ القواعد المعمول بها بل إبطال العمل بالقواعد التي لا تتلائم مع تعاليمه وأبقي البعض وهذّب البعض الآخر بالإضافة إلى الأحكام الجديدة التي سنّها.
وإن لم تتعرّض النصوص الإسلاميّة لكلّ الجرائم والعقوبات وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق في أيّ تشريع مهما كان نوعه: فإنّها لم تهمل التعرّض لأكبر الرذائل ولأخطر الجرائم.
 وقد اتّبع التشريع قاعدة التدرّج بخصوص الجرائم والعقوبات.
فبعد أن كانت مثلا عقوبة الزنا مقرّرة للمرأة دون الرجل وهي الحبس في البيت حتى تموت (1) أصبحت تنال الزاني والزانية وهي الإيذاء (2) ثمّ صارت في النهاية الجلد بالنسبة للمرأة والرجل (3) غير المحصنين والرجم عند البعض للمحصنين.
أمّا شرب الخمر فإنّ النهي عنه تمّ تدريجيا في القرآن وقد ابتدأ بذمّ صنع الخمر إذ قال تعالى:" ومن ثمرات النخيل والأعناب تتغدون منه سكرا ورزقا حسنا." (5) وبذلك تبيّن أنّ ما يصنع من خمر من العنب والنخيل ليس من الرزق الحسن.
ثمّ تواصل التدرّج حتى وصل تحريم شرب الخمر حين قال عمر للرسول:" الخمر مهلكة للمال مذهبة للعقل فأدع الله تعالى يبيّنها لنا." فنزل قوله تعالى:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما".
فاقتنع بعض الناس بالتحريم وقال بعضهم نصيب منافعها وندع المآثم، فطلب عمر الزيادة في البيان فنزل قوله تعالى:" لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون." (2) عندئذ قال بعض الناس لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم بل نصيب منها في غير وقت الصلاة.
فقال عمر اللهمّ زدنا في البيان فنزل قوله تعالى: " إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم تنتهون." (3)
قال عمر: " انتهينا ربنا" (4)
لئن حرّم القرآن شرب الخمر فقد خلا من حدّ الشرب رغم أنّه نهى عن السكر إلاّ أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال في شاب شرب خمرا فضربوه." (5)


كما قال صلّى الله عليه وسلّم:" من شرب الخمر فاجلدوه ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثمّ إن شرب الرابعة فاقتلوه." (1)
وقد قدّر الصحابة الجلد بثمانين جلدة في عهد عمر.
وقد وردت على هذا المنوال في القرآن والسنّة أحكام تحرّم أفعالا وتنهي عن أخرى مبيّنة العقاب المستوجب عن مخالفة النصّ.
وبالرجوع إلى هذه الأحكام يتّضح أنّها وإن كانت تتعلّق بالرذائل الكبرى إلاّ أنّها لم تتعرّض لكلّ الجرائم رغم حمايتها لكلّ المصالح.
لقد نصّت الشريعة على بعض الجرائم وقرّرت العقوبات المترتّبة على ارتكابها وهذه الجرائم هي:
السرقة (3) وقطع الطريق (4) والبغي (5) والردّة (6)  والزنا (7) والقذف (8) وشرب الخمر(9)



وقد جاءت الأحكام في صيغ يستفاد منها تحريم الفعل وإن لم يقع فيها استعمال المصطلحات الفقهيّة (1) الخاصّة والدالّة عن المنع أو الإباحة فإنّه يستفاد منها بصفة جليّة أنّ كلّ الأحكام مبنيّة على المصلحة.
ولئن جاءت هذه الأحكام في أماكن مختلفة من النصّ ووردت منجّمة حسب الحوادث ومقتضيات الأحوال فإنّ بها من المعاني ما يجعل هذه الأحكام أساسا لنظام جنائيّ متكامل قائم على أساس الدين ومرتبط بالمقاصد الأساسيّة للشريعة الإسلاميّة:
وما يفيد أنّ النظام الجنائي الإسلامي مرتبط بالمقاصد الأساسيّة للشريعة أنّ أحكامه جاءت لحماية مصلحة يعتبر المشرّع الاعتداء عليها جريمة توجب العقاب وأنّ المصالح التي اعتبرها التشريع في هذا الموطن وحماها وحرّم الاعتداء عليها ترجع إلى أصول خمسة هي:
1 ـ حفظ الدين.
2 ـ حفظ النفس.
3 ـ حفظ العقل.
4 ـ حفظ النسل.
5 ـ حفظ لمال.
لقد نصّت الشريعة على بعض الجرائم فيها اعتداء على هذه المصالح وقرّرت العقوبة اللاّزمة لمرتكبها وهذه الجرائم هي:
الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق والبغي والشرب.
وقد جاءت الأحكام في صيغة قواعد عامّة لتحقّق المصلحة التي هي المقصد العام للشريعة.
إلاّ أنّه وإن تعرّضت النصوص صراحة إلى بعض الجرائم والعقوبات فمن الثابت أنّه لا يوجد بالقرآن والسنّة بيان لكلّ الجرائم وتحديد لكلّ العقوبات التي يمكن أن تحدث في مجتمع معيّن.
وأنّ ظاهرة السكوت هذه أمر لا ينكره التشريع الإسلامي، وهو معترف به من البداية بأنّ الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما لا يتناهى.
لذا قسمت أحكام التشريع من الأوّل إلى قسمين كبيرين:
1 ـ أحكام مصدرها النصّ.
2 ـ وأحكام مصدرها الرأي.
وبالإضافة إلى ذلك فقد أقرّ التشريع الإسلامي مبدأ هاما يفيد بأنّ مناط الأحكام هي المصلحة، ونتيجة لذلك فإنّ كلّ حكم لا بدّ أن يحقّق بعد أن يطبّق مصلحة معتبرة من الشرع.
وإذا ما طبّقنا على القسم الجنائي الإسلامي قاعدة تقسيم الأحكام إلى أحكام نصيّة وأحكام غير نصيّة مع المبدأ القاضي بأنّ المصلحة هي مناط الأحكام لإستنتجنا أمرين اثنين:
الأمر الأوّل يفيد أن الأحكام التي تعرّض لها القرآن والسنّة جاءت من أجل وقائع حدثت في هذا الوقت.
وعلى هذا الأساس يكون الحكم من هذه الأحكام خاصّا بالنسبة للنازلة التي تسبّبت في وجوده وعاما بالنسبة للمصلحة التي اعتبرها المشرّع وحقّقها عند التطبيق.
الأمر الثاني يفيد بأنّ الأحكام اللاّزمة لكلّ ما يحدث من وقائع ولا نصّ فيه لا تستنبط قياسا على الأحكام الموجودة في الأدلّة وإنّما تستنبط اجتهادا من المصالح المعتبرة في النصوص إلاّ إن نشأة علم الأصول غيّرت هذا المفهوم وجعلت للمبدإ معنى جديدا.
لئن بقيت أحكام الشريعة بصفة عامّة مقسّمة بعد ظهور علم الأصول إلى قسمين:
1 ـ ما فيه نصّ
2 ـ وما لا نصّ فيه
فأنّ مجال العمل بالنصّ فيه يتّسع ويضيق من مذهب إلى آخر حسب موقف صاحب المذهب من الاجتهاد ومن وظيفة المجتهد عنده، إنّ النصّ بمفهومه الجديد هو مصدر الأحكام المنطوق بها في القرآن والسنّة خاصّة وأنّ القياس على النصّ والتقيّد به هو مصدر الأحكام المسكوت عنها في الأدلّة الشرعيّة.



2 ـ مفهوم مبدأ المصلحة مناط الأحكام بعد نشأة علم الأصول
ومن الثابت أنّه وقع اعتماد هذه القاعدة في كلّ أقسام التشريع إذ بالرّجوع إلى قسم الجنائي من التشريع الإسلامي يتّضح أنّ أحكامه تنقسم أيضا إلى قسمين تطبيقا للقاعدة الأصوليّة السابقة:
1 ـ قسم الأحكام النصيّة.
2 ـ قسم الأحكام التفويضيّة.
والمقصود بالأحكام النصيّة هي الجرائم والعقوبات التي تعرّض لها القرآن والسنّة أمّا الأحكام التفويضيّة فهي الجرائم والعقوبات، السكوت عنها في الأصلين السابقين والتي ترك الشرع أمر ضبطها وتقديرها لأولي الأمر.
يبدوا أوّل الأمر أنّ هذا التقسيم للأحكام تقسيم مألوف لا يغيّر من طبيعتها وهو نتيجة حتميّة أيضا لظاهرة سكوت التشريع إلاّ أنّ التطبيق طرائق الاستنباط التي وضعها علم الأصول تجعل هذا التقسيم يغيّر الأسس التي يقوم عليها النظام الجنائي الإسلامي.
لقد كان النظام الجنائي الإسلامي يفيد وقت نشأة التشريع الإسلامي أنّ النصوص تعرّضت لمصالح اعتبرتها وفرضت رعايتها بما يراه أولي الأمر كفيلا بحفظها فأصبح هذا المبدأ يفيد بعد نشأة علم الأصول:
أنّ الأفعال المعتبرة جرائم والعقوبات المستوجبة عند ارتكابها حدّدت بالنصّ إمّا صراحة وإمّا بصفة ضمنيّة.
فإن كانت صريحة فإنّه لا يمكن للقاضي تغيير وصف الفعل أو تبديل العقاب وإن كانت ضمنيّة فإنّ دلالتها في النصّ وحريّة التقدير فيها مقيّدة إذ هي مقصورة على الرّجوع إلى الدليل لاستنباط الحكم منه.
وهكذا فإنّ أسس النظام الجنائي الإسلامي قد تغيّر ظهور علم الأصول وترتبت عنه آثار جديدة.
إنّ تطبيق قواعد التأويل الأصوليّة على القسم الجنائي الإسلامي أدّت بالفقهاء إلى مزيد التحرّي في ضبط الأفعال المستوجبة للعقاب والتشدّد في طريق إثباتها لذا وجب التعرّض أوّلا إلى التقسيم الفقهي للجرائم والعقوبات وثانيا إلى طريق إثباتها لذا وجب التعرّض أوّلا إلى التقسيم الفقهي للجرائم والعقوبات وثانيا إلى طريق إثباتها وإجراءاتها.
يقسم الفقهاء الجرائم إلى:
1 ـ جرائم حدود.
2 ـ جرائم قصاص.
3 ـ وجرائم تعزيز.
وكلّ جريمة حدّ يجب أن يتوفّر فيها ما يلي:
أ ـ أن يكون في الجريمة اعتداء على حقّ الله.
ب ـ أن تكون العقوبة مقدّرة من الشارع.
على أنّ من الفقهاء من يدخل القصاص (1) في جريمة الحدّ وتكون الجريمة الحدّ عندئذ هي التي يتوفّر فيها المعني الثاني فقط أي التي تكون مقدّرة من الشارع.
وجرائم القصاص هي اعتداء على النفس بالقتل أو قطع الأطراف أو الجرح وهي جرائم الدماء.
أمّا جرائم التعازيز فهي اعتداءات ليست من نوع الحدود أو القصاص لأنّ النصّ لم يقدّر عقوبتها.
وقد قابل هذا التقسيم للجرائم تقسيم العقوبات إلى:
1 ـ حدود.
2 ـ قصاص.
3 ـ تعازيز.
والمقصود بالحدود العقوبات التي نصّ عليها القرآن والسنّة بصفة أصليّة جزاء لجرائم وهي خمسة:
1 ـ قطع اليد في السرقة.
2 ـ الجلد مائة جلدة لغير المحصن والرجم للمحصن في الزنا.
3 ـ الجلد ثمانين في الشرب.
4 ـ الجلد ثمانين في القذف بالزنا.
5 ـ قطع اليد والرجل أو القتل أو القتل والصلب بعد قطع اليد والرجل بدون القطع أو النفي وهو حدّ قاطع الطريق إن أخذ المال وقتل وإن خاف ولم يأخذ المال ويقتل النفس.
والمقصود بعقوبات القصاص فإنّ الفقهاء قسموا القصاص إلى قسمين:
1)  قصاص صورة ومعني وهو أن ينزل بالجاني من العقوبات الماديّة مثل ما أنزل بالمجني عليه وهو الأصل في القصاص.
2)  والقصاص معني هو ديّة ما تلف بالجناية وأرش الجناية وهي العقوبة المالية على الإعتداء على الجسم بالجرح والشبح وذلك قصاص معنوي لا يتجه إليه إلا إذا تعذر القصاص الأصلي.1
         وتبعا لخطورة عقوبة القصاص فإنها تدرأ بالشبهات مثل الحدود.
أما المقصود بالعقوبات التعزيزية فهي العقوبات التي تطبق على جريمة لا حدّ فيها ولا قصاص 2
وكثيرا ما تطبق العقوبات التعزيزية على المجرم الذي إرتكب جريمة يستوجب من أجلها جدّا إلا أن أركان الجريمة لم تتوفر لذلك لا يطبق هذا الحدّ وذلك حتى لا يفلت المجرم من العقاب وهو أمر يحدث مثلا عند عدم توفر عدد الشهود الأربعة في جريمة الزنا والقذف مثلا والتعازير عقوبات يراعى فيها حال المجرم ونوع الجريمة وخطورتها.
ويستند في التعازير الى نص من القرآن والسنة بيّن تجريمها كمثل النهي عن الغشّ في قوله تعالى "ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسسرون(1).
وكذلك النهي عن الرشوة في قوله تعالى : "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون(2)    
وبخصوص مقدار التعزير فقد اختلف الفقهاء خاصة فيما يتعلق بالوصول به الى عقوبة الحدود والشائع أنه لا يجوز الوصول الى الحدّ المقرر شرعا (3) وقد تكون عقوبة التعزير بالحبس أو الغرامة أو الضرب.
وقد نتج عن هذا التقسيم آثار من بينها طهور نظريات ومبادئ جعلت للقسم الجنائي الإسلامي إتجاها جديدا أو فلسفة غير معهودة.
فبعد أن كانت تفيد فلسفته أن قواعده العامة مؤسسة على خمس أصول تجسم مصالح يحميها الشرع ويعتبرها القرآن والسنة على أحكام عالجت جوانب من هذه المواضيع المتعلقة بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال أصبح القسم الجنائي الإسلامي يتكون من بيان نظري لجرائم وعقوبات تعرض لها النص. إن وقعت الجريمة واتضح أن النص تعرض لها تكون سلطة القاضي عندئذ (وفي ميدان الحدود) مقصورة على التصريح بالعقوبة المقررة لها بالنص                       
وليس له النزول عن الحدّ المقرر أو تجاوزره وعليه ان يسلط في جرائم الحدود والعقوبات التالية مع ما أسلفنا من تقدير :
1)              النفي
2)              الجلد
3)              القطع
4)              القتل
وهذا التقسيم وان كان معهود لأنه موجود في القواعد العامة للشريعة فإن وجوده في قسم منها وهو القسم الجنائي الإسلامي كان له أثر كبير على فلسفة هذا القسم وعلى الأسس التي اعتمدها أول الأمر.
فبعد أن كان مقهوم الشريعة أن الإمام يقيم العقوبات على الجرائم المرتكبة حفظا للمصالح الخمسة التي اعتبرها المشرع فقد أصبح الإمام ينزل العقوبات التي تعرض لها النص جزاء على الجرائم المقترفة وعند سكوت النص تستنبط الأحكام اللازمة قياسا على النص.
ومما لا شك فيه أن الحدود والقصاص عقوبات صارمة وشديدة وهو أمر واضح (1) لأن الجلد شديد والقطع غليظ والرجم أغلظ منه.
أي نفس لا تقشعر من شدّة العقوبات وإن كانت رادعة للجاني مانعة للإثم.
ليس من شك في أن جرائم الحدود خطيرة وفيها ضياح لمصالح هي أصل كل مجتمع فاضل ومع ذلك فإن هذه الخطورة لا تبرر في أغلب الحوادث شدة العقوبات.
ولأجل الشدّة أقرّ الفقه بأن لا يقام الحدّ إلا عندما تثبت الجريمة بصفة فعلية وينتفي عن الجاني كل عذر لذا كبر التحري في قواعد الإثبات وكثرت صور العفو والإستنباط.

التحــري في الإثبـــــات

ولئن اعتبر الفقهاء في الإقرار مبدأ مؤاخذة المقرّ بإقراره فإنهم لم يطبقوا هذا المبدأ في ميدان الحدود وأحاطوا الإقرار فيه بشرو
ولقد اتفق الفقهاء على أن جرائم الحدود غير القذف لا تثبت إلا بالإقرار والبيّنة ولا يجري فيها توجيه اليمين.
أما القذف ففيه خلاف إذ يرى الحنفية توجيه اليمين فيه وإقامة الحدّ عند النكول.
أما جريمته فتثبت بالإقرار وبشهادة إثنين ولا يتعدد فيها الإقرار ولا يأخذ بشهادة المدعي إذ دعواه ليست حسيّة والقائم بها ليس له مصلحة في الدعوى وهي الدفاع عن عرضه ولا عبرة بالرجوع في الإقرار.
وقد أجمع الفقهاء على أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بالإقرار أو البيّتة .
ويشترط في الإقرار حسب كثير من الفقهاء أن يقع أربع مرات لايرجع فيها المقرّمع مساعدة  كل مرّة علّه يتراجع في إقراره ولا يعاقب إلا بعد إصراره.
أما البيّنة فهي أربعة  شهود فإن نقص العدد وأصرّثلاثة أو إثنان أو واحد على الزنا ترتكب بذلك  جريمة القذف و يطبق  الحدّ من اجلها .
أما عملية الزنا فلا يبدّ أن يشهد الأربعة أنهم رأوها رأي العين (2).

أما الجريمة شرب الخمر فلا تثبت إلا بالإقرار أو بشهادة شاهدين إثنين.
ويرى بعض الفقهاء وجوب تكرار الإقرار والإصرار عليه.

أما السرقة فإنها تثبت إلا إذا شهد شاهدان بها أو أقرّ السارق بها مرتين وقد أقرت السنة أن الحدّ لا يقام في السرقة إلا في نصاب معي (3)
إن شدة العقوبات وسّعت في مجال العمل بمبدإ درء العقوبات بالشبهات الذي أصله الحديث الشريف:
" ادرؤوا الحدود بالشبهات فمن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام عن يخطئ في العفو خير من يخطئ في العقوبة".
إن هذه القاعدة أحسن ضمان للحريات الفردية وهي تفيد بأن العفو على مجرم خير م تسليط العقاب.
والشبهة شك يعتري شخص الفاعل أو موضوع الفعل.
وهذا الشك يفرض عن القاضي أن يسقط الحد أو أن يستبدل به عقابا دونه.
ولقد دلت السنة على أن الإسلام يحث على التضييق في تطبيق الحدود لذلك اهتم الفقهاء بالشبهة ونوعوها وقسموها حسب موقفهم منها.
وقد قسمها الحنفية مثلا الى قسمين هما :
1)   شبهة في الفعل :
       ويشترك لإعتبار الشبهة أن يتوفر شرطان هما :
أن لا يوجد دليل على التحريم
أن يعتقد الفاعل أن ما يفعله حلال.
2)   شبهة في المحل :
وهي مانع وقوع الحدّ في جريمة ثابتة كسرقة الأب لمال ابنه لا يعاقب عليها لأن في الشرع شبهة تفيد أن مال الأبن هو مال الأب (4)
وقد أقرّ الفقهاء للشبهة أنواعا وأن في تنويع الشبهات (5) لدليل على التسامح في منع العقاب ودرئه حتى عند ثبوت الجرائم ولأبسط الشبوهات.
لقد ترتب عن تطبيق مبدإ درء العقوبات بالشبهات بالصفة المبيّنة سابقا أنه كثيرا ما يسقط الحدّ رغم ثبوت الجريمة لأسباب من بينها شدّة العقاب وظروف الجاني التي تفضي الى الشعور بعدم التكافؤ بين العقاب المستوجب والفعل المقترف.
لذلك ترائ للفقهاء أنه يمكن عوض أن يحكم بالبراءة في كل الحالات على الجاني لوجوب ردعه بعقوبة يستحقها فإنه يحكم عليه بعقوبات تعزيرية أو بغرامات مالية عوضا عن الحدّ المقدّر شرعا.
طبعا إن الغرض من هذا المبدأ هو تحقيق العدل لأن العقوبات متناهية في الشدّة لذا تعيّن أن يكون الفاعل قد ارتكب مثلا الجريمة المنسوبة اليه وأن تكون الجريمة خالية من شبهة وعذر للجاني في ارتكابها.
وإن تطبيق هذا المبدأ قد حقّق في الفقه الإسلامي الضمانات الفردية والدليل على ذلك أن فقهاء الحنفية توسّعوا في الأخذ بهذا المبدأ بصفة ملحوظة (6) وذلك لأن المذهب حريص على احترام الحرية الشخصية لذلك لم يطبق الفقهاء الحدّ المشروع إلا اذا كانت :

السرقة من غير حرز
أو كانت سرقة ما دون النصاب
أو كانت السرقة غير التامة
وهذه الشروط لا بدّ أن تتوفر لقيام الحدّ بالإضافة الى أن هناك من أقرّ نوعها من الشبهات وهو شبهة في الطريق أو في الجهة (7) وهي شبهة تثبت وتتحقق في كل فعل اختلف الفقهاء في إباحته أو تحريمه وأي فعل اتفق عليه الفقهاء ولم تختلفوا فيه تفصيلا ؟
كما مكّن بعض الفقهاء المتضرر من أن يسقط حقه وأن يشفع في حدّ ثبت وجوبه في بعض الجرائم.
ففي جريمتي السرقة والقذف إعتداء على المال وإعتداء على شخص لذلك يمكن العفو فيهما خلافا لجرائم الزنا والشرب فلا أثر للعفو فيهما لأنهما من حقوق الله.
كما أسقط الفقهاء العقوبة على من أكره على الزنا (8)  أو الشرب (9) وكان مضطرا للسرقة والضرورة تبيح المعضورات وقد منعت ضرورة المحافظة على الحياة وقوع حدّ القطع وهي الأسباب التي لا يجد معها الإنسان بدا من ارتكاب الجريمة. كما أن التلبس هو من صور اسقاط الحدّ عند القائلين بأنه إذا رأى الإمام أو الحاكم شخصا حال إرتكابه الإثم أي متلبسا بجريمة السرقة أو شرب الخمر أو الزنا فإن رؤية الإمام أو الحاكم وحدها لا تجير للحاكم تسليط العقاب برؤيته (10)بل ييجب ان تقوم عنده بيّنة أخرى.
وقد وصل هذا التساهل الى اعتبار أن الضيف عندما أذن له بالدخول الى الدار فإن هذا الإذن يدرأ عنه الحدّ في السرقة إذا ارتكبها مثلا لأنه مأذون له في ذلك (11)
وكذلك لا يقام الحدّ على الزاني وعلى الشهود إذا شهد أربعة على إمرأة بالزنا وشهدت نساء أنها عذراء لأن البكارة وهي أمر يثبت بشهادة النساء لا يثبت معها الزنا وهو لا يحصل الا بالإيلاج.
وكذلك لا حدّ عند الشروع في الزنا وعند ثبوت مقدمات الزنا بالمواقعة في غير المكان المحدد شرعا.
وعلى كل فإن مبدأ درء العقوبات بالشبوهات الذي أقرّه التشريع الإسلامي قد استعمله كثير من الفقهاء وذلك عند الشعور إما بشدّة العقوبة وإما بعدم تكاففؤها مع الذنب وإن المبالغة في تطبيق مبدأ درء العقوبات بالشبوهات مردها القاعدة المعتمدة ممن يرى أن الشريعة حددت كل الجرائم وضبطت العقوبات.
1)   بالنسبة للحدود : يوجد نص لكل الجرائم والعقوبات " وقد عيّنها الشرع تعيينا دقيقا بحيث لم يترك للأولى الأمر حرية تيبديل العقوبة أو تغيير تقديرها.
ومعنى ذلك أن ما جاء بالنص لازم ولا يمكن للأولى الأمر وللقضاة أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه.
2)   بالنسبة للقصاص(12) إن النص قد تعرض للجرائم والعقوبات مثل ما للحدود والإختلاف الحاصل في الحدود والقصاص يوجد في ميدان التطبيق على مستوى سلطة القاضي (13)إذ هو ملزم بتطبيقه. 
3)   بالنسبة للتعازير : لم تجمع المعاصي مثل الحدود في كتاب خاص لا يوجد لكل معصية نص صريح يجرمها ونص صريح يعاقب عليها.
       " وعندما يقول الفقهاء أن التعزير يكون في كل معصية فمعنى ذلك أن التعزير يكون في كل فعل نصت الشريعة على تحريمه (14) "
ومن هنا نفهم أن الفقه لم يترك لأولي الأمر حرية ضبط الجرائم وتقدير العقوبات لذلك أخذت معظم الدول نظامها الجنائي عن الأنظمة الغربية.
لأنه إن قلنا أن جرائم الحدود والقصاص محدّدة بالنص لا يمكن تغييرها طبطقا لمبدأ لا جريمة ولا عقوبة بدون نصّ فما معننى ذلك بالنسبة للدول الإسلامية التي أقرّت للتشريع سلطة خاصة لوضع القوانين وللقضاء سلطة خاصة مستقلة عن الأولى في الوقت الحاضر معناه أن وظيفة السلطة التشريعية هي البحث عن عقوبات التعازير واستنباطها من النصوص بطرق الإجتهاد ولئن كان الأمر كذلك فما بقي للسلطة القضائية وما هي وظيفتها في الدول العربية والإسلامية التي تروم تطبيق النظام الجنائي الإسلامي على شعوبها.
لم يتبع الصحابة هذه الطريقة في تأويل الأحكام لأن شدة العقوبة لم تؤدي بهم الى درئها في كل الحالات وإنما جعلتهم يغيرونها بصفة تحقق قصد المشرع وهي حفظ المصلحة فمن الثابت أن شرب الخمر منهي عليه في عهد الرسول إلا أن العقوبة على الشرب كانت تعزيرا ولم تكن حدّا حتى بعد ذلك الوقت.
فالمصلحة هي التي قدرت هذه العقوبة وجعلتها حدّا وقد قدّر أبو بكر العقوبة بأربعين جلدة لكن كثرة المتعاطين لشرب الخمر في عهد عثمان جعلته يزيد في الحدّ الى ثمانين جلدة بعد أن وافقه الصحابة على ذلك وبعد أن اقترح عليّ هذا القدر وعلله قائلا : " من سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حدّ المفتري "(15).
وابتداء من هذا الوقت أصبح يطبق على شرب الخمر حدّ القذف.
وهذا دليل واضح على أن المصلحة كانت في عهد الصحابة أصلا مستقلا تبنى عليه الأحكام.
وهذه القاعدة بقي يعمل بها حتى وقت الأئمة إذ أن ابن حنبل رتب تغليظ الحدّ عند شرب الخمر في شهر رمضان وهذا يفيد أن العقوبة يمكن تغييرها.
ومن أمثلة ذلك فقد أبطل الإسلام قاعدة الثأر المعمول بها كثيرا في الجاهلية وأبدلها بقاعدة القصاص التي أسّسها على المساواة بين الجريمة والعقاب ومبدأ التكافؤ بينهما.
وتطبيقا لهذا المبدأ قتل النفس بالنفس إلا أن المصلحة اقتضت أن تنزّل الجماعة منزلة الشخص وهكذا متى استعان القاتل بأشخاص وشاركوه في القتل العمد اعدموا مثل الفاعل الأصلي.
ولا ننسى أن الجريمة لم تكن قبل الإسلام اعتداء على شخص وإنما كانت اعتداء على القبيلة وكان على القبيلة باعتبارها الخلية الإجتماعية الأساسية في ذلك الوقت أن تباشر الثأر تضامنا مع المجني عليه الداخل في حمايتها.
وكانت تناصر القبيلة المجني عليه بريئا كان أو مذنبا فجاء الإسلام وفرّق بين البريء والمذنب وجعل هذا الأخير ينفصل عن القبيلة ليكون محلا للقصاص (16).وامتاز الإسلام أيضا بمكافحة قاعدة الثأر وإيجاد التكافؤ بين الذنب والعقاب. وفي ذلك إشفاء لغليل المجني عليه وحماية لمصالح المجتمع.
وقد ركز الإسلام شريعته على حماية المصلحة وتحقيقها وأقرّ هذا المبدأ في العقوبات التي تعرض لها النص وجاءت جزاء للجرائم المقترفة في ذلك العصر.
إن الجرائم التي عاقبت عليها النصوص الإسلامية هي رذائل دائمة دوام الإنسان ولا يمكن لأي تشريع وضع لمجتمع إنساني عدم مكافحتها.
وإن الوسائل التي كافح بها الإسلام هذه الجرائم هي الكفيلة بالردع في ذلك العصر وإيجاد الطمأنينة واستتباب الأمن في المجتمع.
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار العقوبات نسبية باعتبارها أسلوبا ظريفا للزجر عن أفعار تعتبر مدى الدهر اعتداء على مصالح من واجب كل مسلم حفظها.
وحتى تحقق المحافظة على المصالح الأصولية فإنه يتعيّن على الدول العربية والإسلامية إتخاذ قواعد قانونية تكون لها قيمة القواعد الدستورية تحقق رعاية هذه المصالح في القوانين الداخلية وفي هذا العمل مجهود إيجابي للتوحيد بين  الدول العربية والإسلامية في ميدان التشريع الجنائي










(5)  سورة
(1)  محمّد أبو زهرة – الجريمة 185
(2)  سورة
(3)  سورة
(4)  سورة
(1)  سورة
(2)  سورة النور 2 و3
(3)  سورة النساء 15 " قال كثيرون من الفقهاء أنّ هذه الآية نسخت بقوله الزّانية والزّاني فاجلدوا...
(4)  سورة
(5)  سورة
(1)  سورة النساء 160 نسخت بالآية والزّاني والزّانية...
(2)  
(3)  الحدود في اللّغة جمع حدّ، والحدّ يطلق في اللّغة على المنع والحدّ في الاصطلاح هو العقوبة المقدّرة حقا لله تعالى.
(1)  
(3)
(1)  محمد أبو زهرة ـ الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ـ الجريمة صحيفة 77.
(1)  قال الله تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهنّ في البيوت حتى يتوفّاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا." سورة النساء الآية 15.
(2)  قال تعالى: " واللذان يأتيانهما منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توّابا رحيما." سورة النساء الآية 16.
وقد أعطى للإيذاء معاني عديدة وهي التوبيخ والتعيير وهو السبّ والجناء هو التعبير وهو النيل باللسان والضرب باللسان.
(3)  قال تعالى:" والزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة..." سورة النور الآية 2.
(5)  الآية من السورة
(2)  سورة
(3)  سورة
(4)  محمد عارف مصطفي فهمي " وعمر بن الخطاب قاضيا ومجتهدا" مكتبة النور صحيفة عدد 31.
(5)  
(1)  هناك من يقول أنّ التقدير وقع في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة للجلد
(3)  قال تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بما كسبا نكلا من الله." سورة
(4)  قال تعالى:" وإنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلاّ الذي تابوا من قبل أن تقدّروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم." سورة
(5)  قال تعالى:" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين."
(6)  قال تعالى: " من بدّل دينه فاقتلوه" " لا يحلّ دم امرئ مسلم والا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك للجماعة" سورة
(7)  قال تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رحمة
(8)
(9)
(1)  تحريم الخمر ( فاجتنبوه) كتب عليكم القصاص " البقرة 183 و 188 " صيغة الإخبار
" لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ" الإسراء 33
" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما" النساء 29 صيغة النهي
(1)  من نوع حقّ العبد.
1  ـ محمد أبو زهرة : الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي الجريمة ـ دار الفكر العربي ـ صحيفة 103
2  ـ ولا كفارة أيضا عند البعض
(1)  سورة المطففين الآية 1 و 2 و3
(2)  سورة
(3)  تطبيقا للحديث السابق : " من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين"
(1)   وإن شدة العقوبات أمر مصرح به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى في المطأ عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قيل : " ان من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان المدينة فنتم في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخد رداءه فأخذ صفوان السارق فجائ به الى رسول الله فأمر به الرسول أن تقطع يده فقال صفوان إني لم أرد هذا يارسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل به، أو ردّه.
أحمد فتحي بهنيسي ـ العقوبة في الفقه الإسلامي ـ مطابع دار الكتاب العربي ـ مصر ـ1958. صحيفة 94  
  ورد في السنّة " أنت ومالك لأبيك"(4)
 ولو ثبت زناه بأربعة شهود ـ عبدالله العلي الركبان ـ حكمة مشروعية درء الحدود بالشبهات مجلة العدالة ـ دولة الإمارات
العربية المتحدة ـ السنة الخامسة ـ يناير 1978 صحيفة 48.


 (11)
عليها بالدية هي جرائم القصاص إذا تعذر القصاص لسبب شرعي ثم القتل شبه العمد والقتل الخطأ وإتلاف الأطراف خطأ والجرح خطأ
عبد القادر عودة ـ التشريع الإسلامي الجنائي. دار الكتاب العربي بيروت جزء 1 صحيفة 121 و 122
(14)  عبدالقادر عودة التشريع الإسلامي ـ دار الكتاب العربي بيروت الجزء الأول ص145
(15) مصطفى زيد ـ المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوقي دار الفكر العربي الطبعة 2 من 30
DI KERROU